اشتهر المتنبي بلقبه فغلب على اسمه، واشتهر شعره واذاع في بقاع الأرض وفي كل العصور، حتى قيل أنه أشعر الشعراء لم يأتِ مثله قط، ولن يأتي مثله أبدا.
وعلى الرغم من ذلك، إلا أن المعظم لا يعرف عن المتنبي الكثير، حتى اسمه، أو نشأته، وكل ما يعرفونه هو أنه شاعر متكسب من العصر العباسي، لقبه المتنبي لأنه ادعى النبوة، أو لقب بذلك لشدة ذكائه وعبقريته.
فمن هو المتنبي؟ وأين ولد وكيف نشأ؟ وما أغراضه الشعرية؟ وما حقيقة ادعائه للنبوة؟ وهل هو حقا شاعر متكسب؟
المتنبي اسمه أحمد بن الحسين بن الحسن الكندي الكوفي، ولد سنة 303 هـ، وتوفي مقتولا سنة 354 هـ.
وهو من قبيلة كندة بالعراق، أمه غير معروف اسمها ولا نسبها ولا أصلها، ولم يذكر والده أو أمه في شعره، ولم يفتخر بوالده أبدا في ديوانه.
نشأ المتنبي في الكوفة وتعلم الشعر والنحو والبلاغة على أيدي الكتاب والوراقين في ذلك العصر، واتصل أيضا بعلماء اللغة وتعلم على أيديهم، كأمثال نفطويه والسكري وغيرهم.
ارتحل المتنبي من الكوفة إلى بغداد وقد كان صبيا آنذاك، وتعلم الشعر وحضر حلقات الأدب واللغة، وتعرف إلى الوسط الأدبي واحترف فيها الشعر، إلا أنه لم يمكث فيها كثيرا وإنما رحل إلى الشام ليمتدح الملوك والأمراء.
هو شاعر من أشعر شعراء العصر العباسي، تعددت أغراضه الشعرية، فقال الشعر في المدح، وفي الوصف، وفي الهجاء، وفي الحكمة والفخر.
ومما يجعل المتنبي أشعر الشعراء، لغته وأسلوبه، وحسن التخلص عنده، وعمق شعره، والحاجة إلى التحليل، أضف إلى ذلك أنه شاعر مجيد في كل الأغراض، فإذا قال في المدح أجاد، وإذا قال في الهجاء أجاد، على عكس الشعراء الذين لا يجيدون إلا غرضا أو غرضين في قولهم الشعر.
ومما قال في الحكمة:
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
وفي الفخر:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
وفي الهجاء قوله يهجو أبا دلف بن كنداج:
أهون بطول الثواءِ والتَّلف والسِّجن والقيد يا أبا دُلف غير اختيار قبلتُ بِرَّك لي والجوع يرضي الأسود بالجِيف
كثُر الحديث عن لقب المتنبي وسبب تسميته بذلك، وقد قالوا أن السبب في ذلك هو ادعائه للنبوة، فما حقيقة هذه الدعوى عليه؟
الكثير من القصص التي رويت لنا تدين المتنبي بهذه الدعوى، وأورد هذه القصص العديد من الرواة كالثعالبي، والبديعي.
وأصبحت تدرس هذه القصص في المدارس، وشاعت هذه الدعوى عليه حتى أصبحت مرتبطة بلقبه، لكن المتنبي بريء من هذه التهمة، وما هذه القصص إلا اختلاق من الحساد، وطبيعي أن يكون لشاعر مثل المتنبي الكثير من الحساد والأعداء.
وندافع عن المتنبي ونرد هذه الدعوى بقولنا:
1. أن المتنبي عرف عنه بالترفع عن مجالس اللهو والزنا وما اشتهر به أصحاب هذا العصر، فالمبتعد عن هذه الأمور لا يمكن ان يرتكب جريمة ادعاء النبوة.
2. أن عقاب الذين ادعوا النبوة كان القتل، فلماذا لم يقتل المتنبي لهذا السبب؟
3. أن المتني كان يجالسه علماء اللغة، ولو أنه ادعى النبوة لابتعد عنه العلماء ونفروا منه.
4. أن القصص التي رويت في أنه ادعى النبوة وبعض الآيات التي نزلت عليه، ما هي إلا افتراء، لأنها لم تصل إلى بلاغة وأسلوب المتنبي وإنما كانت كلمات لا يجيء بها إلا سفيه، ومن هذه الآيات التي اتهموا المتنبي بها:" والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار".
المتنبي وبعض أدباء العصر العباسي كانوا يرون أنهم أحق بالإمارة وتولي المناصب من غيرهم، لأنهم أصحاب الفكر الذي يستحق ذلك المكان.
لذلك فالمتنبي كان يطمح لتولي منصبا رفيعا، فيتولى حكم إمارة من الدولة العباسية، فامتدح سيف الدولة، وامتدح كافور الإخشيدي.
ومما يدل على أنه يطمح للإمارة قوله يمتدح كافور الإخشيدي:
قالو هجرت إليه الغيث قلت لهم إلى غيوث يديه والشآبيب إلى الذي تهب الدولات راحته ولا يمن على آثار موهوب
ففي البيت الثاني تصريح منه بأنه يريد ولاية.
وفي مدحه لسيف الدولة يرى أنه جدير بالمدح فيمتدحه وقد كان يحبه حبا شديدا، وهو صادق في حبه له، أما كافور الاخشيدي فيرى المتنبي أنه وصل للحكم وهو عبد، والعبد لا يجب أن يسود ويحكم، لذلك نجد في امتداحه لكافور الإخشيدي هجاء مغلف بالمدح، أي ان المدح مبطن بالهجاء.
ولا أعلم ماذا نسمي ذلك، هو يريد الولاية لذلك يقول الشعر، إذن متكسب، لكنه في نفس الوقت يغلف مدحه بالهجاء، فهل هذا تكسب؟
ولماذا لا نقول أن المتنبي سجن ذات مرة، فأصبح لا يستطيع الهجاء صراحة فلذلك يمتدحهم؟
وبماذا نفسر رفض عودته لبلاط سيف الدولة إذا كان متكسبا؟
فالأمر لا يحسم، والجدل فيه واضح.