في العصر الجاهلي كان الشاعر عندما ترحل محبوبته، يقف على أثار ديارها ويقول الشعر، وهذه هي القصة التي اعتبرها العالم قصة حقيقية.
لكن عند قراءتنا للشعر الجاهلي نجد أن الأطلال عبارة عن استفتاح للقصيدة، فهل من المعقول أن يكون جميع شعراء العصر الجاهلي قد قالوا المقدمة الطللية لأن محبوباتهم قد تركوا الديار، فبكوا على آثارها؟
فعندما بدأ عمرو بن الأهتم قصيدته بقوله:
ألا طرقت أسماء وهي طروق وبانت على أن الخيال يشوق
بحاجة محزون كأن فؤاده جناح وهى عظماه فهو خفوق
وهان على أسماء أن شطت النوى يحن إليها واله ويتوق
تبين أن بداية هذه القصيدة وقوف على الأطلال، وأن عمرو بن الأهتم يشتاق اليها، فهي ابتعدت عنه وهان عليها الابتعاد، لكن عندما نكمل القصيدة نجده يقول:
ذريني فإن البخل يا أم هيثم لصالح أخلاق الرجال سروق
ذريني وحطي في هواي فإنني على الحسب الزاكي الرفيع شفيق
نجد أنه يتحدث عن الكرم والبخل، فما علاقته بالمقدمة الطللية إن كانت أسماء حقا محبوبته؟
إن أسماء من السمو، وكان السمو يتحقق عند عرب الجاهلية بثلاثة أمور: الحسب والنسب، الشجاعة، الكرم، فهو يرى أن الكرم سيحقق له السمو وسيحفظ نسله من بعده، لذلك نهرها لأنها تحثه على البخل.
وعندما قال عنترة في مطلع معلقته:
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
يا دار عبله بالجواء تكلمي وعمي صباحا دار عبله واسلمي
هل عبلة حقيقية؟
في الحقيقة أنه شاع أن عبلة امرأة حقيقية وهي بنت عم عنترة رفض والدها تزويجه إياها لأنه عبد أسود، والعبد لا يتزوج من حرة، وعندما قال عنترة الشعر فيها، رحل والدها وأخذها معه، وهذه كانت من عادات العرب، أنهم اذا قيل الشعر في امرأة رفض والدها أن يزوجه إياها.
ولكن عندما نتناول المعلقة بالقراءة والتحليل، نجد أن عنترة كان له مطلب عظيم وهو الحرية، فقد كان دائما يبحث عنه، وعندما شارك في قتال قال له سيده كر وأنت حر، أي قاتل لأنه كان قويا شجاعا لا يتخيل قومه الحرب دونه.
والمهم في ذلك أن عنترة كان له مطلب ضخم وعظيم، والعبل من عبلة، والعبل في اللغة هو الشيء الضخم، فربما استخدمها الشاعر ليعبر عن مطلبه الكبير وهو إدراته وبحثه عن الحرية، وبذلك لا تكون عبلة امرأة حقيقية.
ولا نجد ذلك في الجاهلية فقط، فنجده في الإسلام أيضا، فهذا حسان بن ثابت يقول:
عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء
ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والسماء
ثم يكمل فيقول:
فدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاء
لشعثاء التي قد تيمته فليس لقلبه منها شفاء
فقد بدأ الشاعر حديثه عن عدة مناطق وهذه المناطق في الشام إلا أنه كان يسكن في مكة، ولا يمكن أن يذكر شخص مكان لا يعيش فيه، ولا يعقل أن يذكر بلاد الشام، لأن محبوبته كانت فيها لكن في الحقيقه أنه لم يكن يقصد محبوبة حقيقية، لانه قد ذكر شعثاء ثم قال أن طيفها يؤرقه، ثم تيمت شخصا آخر.
فكيف تؤرقه وشخص آخر متيم بها؟
هل هذا معقول؟
إذن هو لم يقصد أن تكون شخصية امرأة حقيقية لكن شعثاء المقصود بها مكة قبل الاسلام، وقد كانت مكة قبل الاسلام مليئة بكثرة الأديان فسماها حسان بن ثابت شعثاء لهذا السبب فشعثاء أرقت حسان لأنه بمثابة الناطق الإعلامي لها، وتيمت النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يدعو إلى الاسلام وكان يريد أن يخلص مكة من الكفر.
وإنني لا أنكر أن قصة الأطلال قد تكون حقيقية، لكن هناك شواهد تدل على أن المحبوبة لم تكن حقيقية في الشعر الجاهلي، وإنما وظفها الشعراء للحديث والتعبير عن قضاياهم الكبرى.