لما كان الموت من القضايا الكبرى التي تؤرق الإنسان وتجعله أسيرا لها منذ العصور القديمة، مرورا بالعصر الجاهلي، إلى عصر صدر الإسلام وما بعده، كان فقدان عزيز يمثل قضية كبيرة جدا، ولما كان الشعر هو ديوان القوم في التعبير عن ما يجول في عقولهم وأخلجتهم، نجد أن التعبير عن الشعور الموجع والمؤلم بفقدان عزيز او حبيب قد أخذ مكانته في الشعر وأصبح من المواضيع الاساسية والأغراض الرئيسية التي تحدث عنها الشعراء. وعليه، فإن البكاء على الميت واستعظام المصيبة بفقدانه، وذكر مناقبه وتعداد حسناته، وإظهار التفجع والتلهف عليه، هو فن الرثاء الذي نجده في الشعر. ففن الرثاء: هو البكاء على الميت واستعظام المصيبة بفقدانه، وذكر مناقبه وتعداد حسناته، وإظهار التفجع والتلهف عليه.
كان الموت يشكل قضية كبرى في حياة الإنسان الجاهلي، والحياة تشكل القضية المقابلة له، وكانت رؤية الإنسان الجاهلي للحياة بأنها فانية لا بد،ولا حياة بعدها،ولذلك حرصوا على أن يبقى لهم ذكر بعد وفاتهم، فهموا بعمل ما كان له قيمته، كالكرم والشجاعة وإغاثة الملهوف، وبعد وفاتهم كان الشعراء يرثونهم ويذكرون محاسنهم ومناقبهم التي حرصوا عليها في حياتهم.
وقد اتصل الرثاء بشعر الحماسة، فكان الشعراء يرثون موتاهم، ويحرضون القبيلة على الأخذ بالثأر ويحثونهم على الحرب ليرجعوا حق قتيلهم، ويذكرون مناقبه ومحاسنه ليحركوا مشاعر أقوامهم تجاه هذا الشاعر، فكان الرثاء والحماسة مرتبطان أشد الارتباط ببعضهما البعض. وقد كان إحساسهم إزاء ذلك منطلق من شيئين: الوفاء والجزع، وبذلك ينطلق فن الرثاء من منطلق نبيل ينبع من شعور الإنسان تجاه شخص ميت قد فُرّق عن الأحباب، ويهدف إلى إفراغ النفس من مواجع لا شفاء لها. وبهذا نجد أن الفكرة التي سيطرت على العقل العربي أن الموت هو النهاية، ويجب الاخذ بثأر الميت وارتبط الثأر بالرثاء ارتباطا حماسيا كبيرا.
مع مجيء الإسلام بقي فن الرثاء يحمل طابعا مشابها للطابع الجاهلي، إلا أن الموت لم يعد فكرة تؤرقهم فاصبحوا يرون أن الموت ليس النهاية وأن هناك حياة سيجازى فيها الإنسان، فكان دافعا للاطمئنان لهم، ونتيجة لتحريم الدين الإسلامي للثأر فأصبحت العلاقة غير مرتبطة بالثأر، ومع هذا فكان الرثاء مرتبطا بالحماسة أيضا.
لكن ما ميز فن الرثاء في العصر الإسلامي أن المضامين اختلفت، فشاع رثاء الصحابة والنبي والمعاني الإسلامية المتداخلة في هذا الفن كان لها صداها الكبير في الشعر. وما يميز فن الرثاء في هذا العصر ايضا، قدرتهم على تحويله إلى مشاعر الصبر، فالجزع لم يعد موجودا،والصبر هو ما ميز هذا الرثاء، والإيمان بالقضاء والقدر، أي أن المعاني الإسلامية هي التي ظهرت في هذا الفن.
تطور الرثاء في العصر العباسي، وكذلك في العصر الأندلسي، فلم يعد يقتصر على رثاء الخلفاء والنبي، بل تطور ليرثي الأشياء غير الحية، لكنها حية في قلوبهم. فرثوا المدن، ورثوا البلدان التي سقطت في أيدي الأعداء، ورثوا القصور، فلما سقطت بغداد في أيدي الأعداء، اتقدت قرائح الشعراء، وتمزعت قلوبهم ألما، فرثوا المدن وهذا يتفق مع طبيعة حياتهم. على أن المعاني الإسلامية بدأت تضعف في هذه العصور، فلم يعد لها صداها الكبير، وإنما عاد البعض منهم إلى المعاني والأفكار التي كانت سائدة في الجاهلية.
إن أهم ما يميز شعر الرثاء هو الصدق الكبير والعاطفة الجياشة، والإحساس بالألم والتعبير عنه، وكذلك التفجع والتحسر على الفقد. ويستخدم معانٍ وكلمات قريبة من النفس الإنسانية، ويتلاعب بعواطف المتلقين عن طريق الصدق الكبير.